يمثّل انتهاء مدة اتفاقية نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا، في الأول من يناير/كانون الثاني 2025، منعطفًا مهمًا في المشهد الجيوسياسي لأمن الطاقة في أوروبا.
ومع إشارة أوكرانيا إلى نيّتها وقف نقل الغاز القادم من موسكو، يسعى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى إيجاد طرق بديلة للحفاظ على نفوذ روسيا بمجال الطاقة في أوروبا.
وتعتمد هذه الإستراتيجية على الدور الناشئ لأذربيجان بصفتها وسيطًا بارزًا، إلى جانب الديناميكيات التنافسية التي تشمل الولايات المتحدة والمشروعات الإستراتيجية الجديدة لشركة غازبروم الروسية Gazprom.
ويتناول هذا التحليل الآثار المتعددة الجوانب لهذه التطورات، ويستعرض مصالح وإستراتيجيات أصحاب المصلحة الأساسيين، ويتوقع النتائج الجيوسياسية المحتملة.
يمثّل انتهاء مدة اتفاقية نقل الغاز بين روسيا وأوكرانيا منعطفًا حاسمًا في ديناميكيات الطاقة الأوروبية.
ويتأثر قرار أوكرانيا بعدم تمديد الاتفاقية بحربها المستمرة مع روسيا والدفعة الإستراتيجية لتنويع اقتصادها، دون الاعتماد على رسوم النقل الروسية.
في المقابل، تظل الدول الأوروبية مثل النمسا وسلوفاكيا والمجر تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، على سبيل المثال، تحصل المجر على أكثر من 30% من غازها من خلال خط أنابيب ترك ستريم، ما يخفّف من تأثير توقّف النقل المحتمل عبر أوكرانيا.
وعلى الرغم من الموقف السياسي لأوكرانيا، تشير الحقائق الاقتصادية إلى أن نقل الغاز من غير المرجّح أن يتوقف بالكامل.
ويفترض خبير سوق النفط والغاز المستقل، فلاديمير ديميدوف، أن الترتيبات البديلة، مثل إشراك شركة سوكار الأذربيجانية SOCAR أو شركة أو إم في النمساوية OMV، من شأنها أن تدعم تدفقات الغاز إلى أوروبا.
ومن شأن هذه الآليات أن تمكّن روسيا من مواصلة توريد الغاز مع تجاوز التدخل الأوكراني من الناحية التقنية، ومن ثم إرضاء مصالح جميع الأطراف المعنية.
تضع أذربيجان نفسها وسيطًا مهمًا في مجال الطاقة بإعادة تشكيل عبور الغاز الروسي إلى أوروبا.
وتؤكد اجتماعات الرئيس إلهام علييف مع بوتين التعاون الإستراتيجي بين موسكو وباكو في قطاع الطاقة، وتسلِّط المشروعات المشتركة والتبادل التجاري الكبير، الذي يتجاوز 4 مليارات دولار، الضوء على العلاقات الاقتصادية المتعمقة.
وتعمل البنية الأساسية القائمة في أذربيجان، بما في ذلك خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان وخط الأنابيب العابر للأناضول (تاناب)، على تسهيل دور البلاد بصفتها قناة لصادرات الغاز إلى أوروبا.
ومن خلال دمج الغاز الروسي في هذه الشبكات، يمكن لأذربيجان تأمين موقف محوري في إدارة تدفقات الطاقة الإقليمية.
وقد يسمح انخراط أذربيجان لروسيا بالحفاظ على صادراتها من الغاز إلى أوروبا، دون الاعتماد على العبور الأوكراني، وإعادة تسمية إمدادات الغاز فعليًا باسم أذربيجان.
ورغم ذلك، فإن قيود القدرة في أذربيجان تعني أن مثل هذه المبادرات لإعادة التصدير سوف تُعدّ في المقام الأول مناورات لوجستية وسياسية بدلًا من التنويع الحقيقي لمصادر الطاقة.
وتسمح هذه الإستراتيجية لأوروبا بتقليص اعتمادها على الغاز الروسي اسميًا، مع الاستمرار في الاعتماد عليه عبر قنوات غير مباشرة، وهو ما يحافظ على نفوذ موسكو في سوق الطاقة الأوروبية.
يطرح التحول بعيدًا عن طرق العبور الأوكرانية تحديات وفرصًا كبيرة لأمن الطاقة في أوروبا.
إزاء ذلك، تواجه دول وسط وشرق أوروبا، ولا سيما النمسا وسلوفاكيا، ضعفًا متزايدًا بسبب اعتمادها على الغاز الروسي.
وقد يؤدي التحول المحتمل إلى طرق بديلة، مثل تلك التي تشمل أذربيجان، إلى زيادة تكاليف الطاقة، حيث تكون آليات إعادة التصدير أكثر تكلفة عمومًا من العبور المباشر.
على سبيل المثال، أبرزَ الأستاذ المشارك لدى أكاديمية بليخانوف الروسية للاقتصاد، في موسكو، ألكسندر تيموفيف، أنه دون العبور الأوكراني، قد ترتفع أسعار الغاز إلى 600-650 دولارًا لكل 1000 متر مكعب، ما يعكس زيادة تكاليف طرق التوريد البديلة.
وعلى الرغم من أن دولًا مثل ألمانيا، التي استثمرت في البنية التحتية للغاز المسال، مهيّأة للتعامل مع هذه الاضطرابات، فإن سوق الطاقة الأوروبية عمومًا ما تزال محفوفة بالمخاطر.
بدورها، تزيد العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران 2024 على الغاز المسال الروسي، التي تحدّ من قدرات إعادة التصدير، من تعقيد السيناريو، من خلال تقييد المرونة في الحصول على الطاقة من المورّدين غير التقليديين.
تنبع الضرورة الإستراتيجية لموسكو لتنويع طرق نقل الغاز الروسي من تدهور العلاقات مع أوكرانيا وفرض العقوبات الغربية.
وقد واجه مشروع “باور أوف سيبيريا 2″، الذي كان من المفترض أن يصدّر الغاز إلى الصين، تأخيرات، ما جعل السوق الأوروبية أكثر أهمية بالنسبة لشركة غازبروم.
ويوفر التعاون مع أذربيجان لروسيا مسارًا عمليًا للحفاظ على صادراتها من الطاقة إلى أوروبا، مع التحايل على التحديات السياسية واللوجستية التي يفرضها النقل عبر أوكرانيا.
وتحافظ هذه الإستراتيجية على تدفقات الإيرادات الروسية، وتقلل من النفوذ الجيوسياسي لأوكرانيا بصفتها دولة عبور.
ومن خلال الشراكة مع شركة النفط والغاز الأوكرانية، يمكن لموسكو أن تواصل التأثير في إمدادات الطاقة الأوروبية بشكل غير مباشر، والحفاظ على حضورها الإستراتيجي في المنطقة، على الرغم من الصراع المستمر والعقوبات.
تتزايد حدّة المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا على إمدادات الغاز إلى أوروبا، مع تنافس الدولتين على تأمين نفوذهما على أسواق الطاقة الأوروبية.
وقد زادت الولايات المتحدة بشكل كبير من صادراتها من الغاز المسال إلى أوروبا، بهدف تقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي.
ووفقًا لأحدث البيانات، يشكّل الغاز المسال الأميركي أكثر من 40% من واردات أوروبا من الغاز، متجاوزًا 13% من الغاز الروسي المسال.
وفي الوقت نفسه، تظل صادرات خطوط الأنابيب لشركة غازبروم كبيرة، حيث يبلغ إجماليها 105 مليار متر مكعب إلى الدول المجاورة، مع صادرات إضافية عبر خطوط الأنابيب إلى سلوفاكيا والمجر والنمسا تبلغ نحو 28 مليار متر مكعب.
وهذا يضع إجمالي صادرات روسيا أعلى قليلًا من صادرات الولايات المتحدة، على الرغم من بحث غازبروم المستمر عن أسواق جديدة، والتحديات التي تفرضها العقوبات الغربية.
من جهتها، تستغل الولايات المتحدة بنيتها التحتية للغاز المسال وتوسع قدرتها على المنافسة بشكل أكثر فعالية في السوق الأوروبية.
وفي الوقت نفسه، تستكشف روسيا مسارات وشراكات جديدة، مثل تلك التي عقدتها مع أذربيجان، للحفاظ على قدرتها التنافسية.
على صعيد آخر، تؤكد المناورات الإستراتيجية التي تقوم بها كل من الدولتين، المخاطر الكبيرة التي ينطوي عليها أمن الطاقة في أوروبا، مع ما يترتب على ذلك من آثار كبيرة في التحالفات الجيوسياسية والاستقرار الإقليمي.
تسعى شركة غازبروم إلى تنفيذ مشروعات جديدة لتعزيز قدراتها على تصدير الغاز الروسي، والتخفيف من تأثير انخفاض العبور عبر أوكرانيا. وتشمل المبادرات الرئيسة ما يلي:
حوّلت غازبروم تركيزها الاستكشافي الجيولوجي إلى جرف بحر كارا في القطب الشمالي، مع التركيز على تطوير حقلي كيرينسكوي ويوجنو كيرينسكوي ضمن مشروع سخالين-3.
وتشمل الاكتشافات الأخيرة رواسب غاز جديدة في حقلي لينينغرادسكوي وروسانوفسكوي، بالإضافة إلى حقلي في. دينكوف ونيارميسكوي.
رغم ذلك، أدت التكاليف المرتفعة والظروف المناخية الصعبة إلى دفع غازبروم إلى تأجيل أنشطة الاستكشاف والحفر في 4 مواقع تحت الأرض من عامي 2029-2032 إلى عامي 2033-2036.
سخالين-2: يعمل هذا المشروع منذ عام 1994 بنسبة ملكية 77.5% لشركة غازبروم، ويتضمن تطوير حقلي بيلتون-أستوكسكوي ولونسكوي. يجري تسييل الغاز في محطة سخالين-2 للغاز المسال، الذي لديه خطط للتوسع بإضافة قطار ثالث للغاز المسال.
سخالين-3: يركّز المشروع على حقول كيرينسكوي وآياشسكي وفوستوتشنو-أودوبتنسكي، ويهدف إلى توريد الغاز إلى السوق المحلية ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ بحلول عام 2027، ويشمل التطوير مجمعات إنتاج تحت الماء أجنبية ومحلية، ومن المقرر أن يبدأ حقل يوجنو-كيرينسكوي الإنتاج في عام 2025.
ما يزال هذا المشروع، الذي يهدف إلى تصدير الغاز إلى الصين، في مراحل التفاوض مع آفاق غير مؤكدة، وقد أدى التأخير إلى تأخير الإنتاج المحتمل، مما جعله أقل موثوقية بصفته بديلًا للصادرات الأوروبية.
تضمن الاتفاقية الموقّعة مع بيشكيك توريد الغاز الروسي إلى قيرغيزستان حتى عام 2040، مع خطط لمضاعفة الواردات من 387 مليون إلى 800 مليون متر مكعب في غضون بضع سنوات.
وعلى الرغم من هذه المبادرات، تواجه شركة غازبروم تحديات كبيرة، بما في ذلك التكلفة العالية للتطويرات البحرية، وتأثير العقوبات الغربية، والديناميكيات المتغيرة لأسواق الطاقة العالمية.
تجدر الإشارة إلى أن المؤشرات الاقتصادية لعام 2024 تُظهر عودة إلى الربح، مدفوعة في المقام الأول بعائدات النفط، على الرغم من القيود الإستراتيجية المستمرة.
يحمل قرار أوكرانيا بوقف عبور الغاز الروسي تداعيات عميقة على اقتصادها ومكانتها الجيوسياسية.
من ناحية أخرى، تضغط الخسارة المحتملة لرسوم العبور، التي أسهمت بأكثر من 4 مليارات دولار في الاستثمارات المباشرة والعائد التجاري، بشكل كبير، على اقتصاد أوكرانيا الممزق بالحرب.
بالإضافة إلى ذلك، تتضاءل الأهمية الإستراتيجية لأوكرانيا بصفتها مركزًا لعبور الطاقة، ما يقلل من نفوذها على المستويين الإقليمي والدولي.
وتتوافق الخطوة مع إستراتيجية أوكرانيا الأوسع نطاقًا للحدّ من الاعتماد على الطاقة الروسية، إذ إن الجهود المبذولة لتطوير مصادر الطاقة البديلة وتنويع طرق العبور جارية، على الرغم من أنه من غير المرجّح أن تعوض على الفور عن خسارة عائدات عبور الغاز الروسي.
وفي الأمد البعيد، تهدف أوكرانيا إلى تعزيز استقلالها في مجال الطاقة، إلّا أن التكاليف الاقتصادية والإستراتيجية في الأمد القريب كبيرة.
تُمثّل إعادة تشكيل طرق عبور الغاز الروسي عبر أذربيجان وغيرها من البدائل تحولًا جيوسياسيًا كبيرًا في ديناميكيات الطاقة الأوراسية.
ويسمح هذا التحول لروسيا بالحفاظ على نفوذها بمجال الطاقة في أوروبا، مع تقليص دور أوكرانيا بصفتها مركز عبور مهمًا.
ويؤكد موقف أذربيجان المعزز بكونها وسيطًا في مجال الطاقة أهميتها الإستراتيجية، في حين تسلّط الديناميكيات التنافسية مع الولايات المتحدة الضوء على الصراع الأوسع نطاقًا على النفوذ على أسواق الطاقة الأوروبية.
بالنسبة لأوروبا، يظل الاعتماد على الغاز الروسي قضية معقّدة، حيث ما تزال الترتيبات البديلة تشمل موسكو بشكل غير مباشر.
وتعكس التكاليف المتزايدة والتحديات اللوجستية المرتبطة بآليات إعادة التصدير أو واردات الغاز المسال الصعوبات التي تواجهها أوروبا في الامتناع الكامل عن الطاقة الروسية.
وتكشف دول مثل المجر والنمسا، التي نوّعت مصادر الغاز لديها، الدرجات المتفاوتة من الاعتماد والمرونة داخل المشهد الأوروبي للطاقة.
وعلى الرغم من مواجهة التأخيرات والضغوط الاقتصادية، تشير المشروعات الإستراتيجية لشركة غازبروم إلى التزام روسيا بالحفاظ على دورها موردًا رئيسًا للطاقة.
ويهدف استكشاف حقول جديدة في القطب الشمالي والشرق الأقصى، إلى جانب الشراكات الإستراتيجية، لتأمين إمدادات الغاز المستقبلية والتخفيف من تأثير العقوبات الغربية.
وسوف يشكّل التفاعل بين روسيا وأذربيجان والولايات المتحدة والدول الأوروبية مستقبل أمن الطاقة والتحالفات الجيوسياسية في المنطقة.
ويعكس الدور المتقلص لأوكرانيا في نقل الغاز تحولات أوسع في ديناميكيات القوة الإقليمية، في حين ستستمر إستراتيجيات الطاقة الأوروبية في التطور، استجابة لهذه التغييرات.
ويؤكد الاعتماد المستمر على الغاز الروسي، وإن كان من خلال طرق بديلة، التعقيد الدائم للتداخلات الجيوسياسية في مجال الطاقة بمنطقة أوراسيا.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
اقرأ أيضًا..