كانت البداية في 1960 حين نُشرت ورقة بحثية بعنوان “Man-Computer Symbiosis” أو ما يعرف بالعربية بـ “تناغم” أو “تكافل” الإنسان والكمبيوتر، والمقصود بذلك هو أن يصبح الإثنان شيئاً واحداً كالجسد الواحد، وتلك الفكرة كانت تتخطى الحدود المتوقعة لهيمنة الكمبيوتر على حياة البشر، حيث أن جميع العلماء في ذاك الوقت من الزمان كانوا يرون الحواسيب على أنها آلات وأدوات معقدة قد تساعد البشر دون إحتكاك العامة بها بشكل مباشر، لكن كان هناك شخص واحد رأى غير ذلك: إنه J.C.R. Licklider (لیکلیدر) الذي يمكن اعتباره “أول عالم حواسيب في التاريخ”، وفي قصته الكثير من الإثارة!
تعلقنا الشديد بأجهزتنا:
كلما أتت أمامي كلمة “Symbiosis” اتذكر شخصية “ڤينوم” من عالم Marvel للقصص المصورة، حيث أن ڤينوم هو كائن فضائي “سمبيوت” لا يمتلك شكلاً أو هيئة، ولكنه يستمد قدرته على التأقلم والتعايش في وسط البيئة المحيطة على كوكب الأرض بالاندماج مع جسم أي كائن حي، وعلاقة ڤينوم بالكائن الذي يستضيفه شبيهة للعلاقة التي رأى Licklider أنها ستحدث بين الإنسان والكمبيوتر في ورقته البحثية “Man-Computer Symbiosis” التي نُشرت في مارس 1960، حيث قال في مقدمتها:
التناغم بين الإنسان والكمبيوتر هو تطور متوقع في التفاعلات التعاونية بين الرجال والحواسيب الإلكترونية، وسيشمل إقتراناً وثيقاً جداً بين الإنسان والأعضاء الإلكترونية التي في الشراكة، والأهداف الرئيسية هي: أولاً السماح لأجهزة الكمبيوتر بتسهيل التفكير (على الإنسان)؛ لأنها الآن تسهل حل المعضلات، ثانياً تمكين البشر وأجهزة الكمبيوتر من التعاون في اتخاذ القرارات والسيطرة على المواقف المعقدة دون الاعتماد غير المرن على برامج محددة سلفاً
وفي الوثيقة المكونة من آلاف الكلمات شرح ‘ليكليدر’ كل ما يعنيه بهذه النقاط، والتي نراها في يومنا الحالي تتمثل في اعتمادنا الكلي على هواتفنا وعدم قدرتنا الاستغناء عنها وتعلقنا الشديد بها؛
بسبب تسهيلها لوصولنا للمعلومات وحل المشكلات، وقريباً ستساعدنا تلك الأجهزة في اتخاذ القرارات، حيث ستصبح ذات قدرة على إنتاج الأفكار دون الإعتماد “غير المرن” على ما برمجت عليه سلفاً (كما وصفها ليكليدر)، وأجل، لقد وصف ليكليدر ChatGPT وثورة الذكاء الاصطناعي في بحثه المنشور منذ أكثر من نصف قرن!
لم ينحصر ليكليدر بين حدود الخيال، وإنما قام بالمساهمة على أرض الواقع في تنفيذ مجموعة من أهم المشاريع في تاريخ الكمبيوتر وتمكن من إحداث العديد من التغييرات الهائلة التي تركت تأثيرها على العالم حتى يومنا هذا ولن تزول قريباً، وإليك القصة يا صديقي مع ذكر بعض الإنجازات الهامة لهذا الرجل.
دوافع التقدم أثناء الحرب الباردة:
كان للاتحاد السوفيتي العديد من الإنجازات العلمية والتكنولوجيا خصوصاً في فترة الخمسينيات، وقد أثار ذلك مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية، حيث رأت الحكومة أن تفوق الاتحاد السوفيتي تكنولوجياً سيؤثر عليها وعلى مناعتها ضد الأعداء؛ فلذلك قررت وزارة الدفاع الأمريكية إنشاء وكالة ARPA (وكالة أبحاث المشاريع المتطورة) في 1958 لرفع مستوى البحث العلمي في الولايات المتحدة، وقد قامت الحكومة بضخ أموال طائلة للبحث والتطوير في تلك المنظمة
وبعد المضي في البحث عن الكفاءات للتوظيف في تلك الوكالة، رأى العلماء في ARPA تلك الورقة البحثية المميزة التي نُشرت من قبل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) والتي كتبها ذلك الشخص الحاصل على دكتوراه في علم النفس والشغوف جداً بالحواسيب في نفس الوقت – إنه جوزيف ليكليدر الذي وضع في تلك الورقة البحثية رؤية مستقبلة للحواسيب مميزة ومختلفة نهائياً عن جميع تصورات الجيل، وقد قاموا بناءاً على أفكار بتعيينه في الوكالة بالفعل!
فرصة ليكليدر لتحقيق رؤيته المستقبلية:
تم تعيين J.C.R. Licklider في وكالة ARPA التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية عام 1962، وأصبح فوراً الشخص الذي يحرك اللعبة بالكامل، حيث أنه تولى الحكم على المشاريع الكبيرة وتمويلها، وقد قام بالعديد من الإنجازات التاريخية التي لا يمكن إنكار تأثيرها على عالمنا اليوم، أولها: أنه قام بجعل الـ “Computer Science” مجال أكاديمي يدرس في الجامعات، ومنها:
أنه موّل Douglas Engelbart وفريقه لإتمام مشروع “واجهة المستخدم البصرية” الذي مكن الإنسان لأول مرة بالتفاعل بشكل طبيعي مع الكمبيوتر (شمل أيضاً هذا المشروع تقديم “فأرة الحاسوب” لأول مرة)، ومن المهم أيضاً ذكر أن ليكليدر نفسه هو أول من تصور الإنترنت، وقد ترك لنا في 1963 مذكرة اسماها “The Intergalactic Computer Network” وصف فيها الفكرة وكيفية تطبيقها بناءاً على التكنولوجيا التي كانت متواجدة حينها، وقد قام بإنشاء أول شبكة إنترنت في التاريخ في 1969 مع مجموعة من خريجي جامعة كاليفورنيا تحت إدارة البروفيسور ليونارد كلينروك!
شبكة الإنترنت الأولى ربطت بين بعض المنظمات الحكومية والجامعات والمعاهد على مستوى إقليمي داخل الولايات المتحدة، وتلك الشبكة كان اسمها “ARPANET”، والتي دفعتنا نحو التقدم إلى ما نحن عليه اليوم – نعم، ما نحن عليه هو أنا وأنت نتواصل مع بعضنا البعض من خلال الشاشات، وكل ذلك يعود في الأصل لـ Licklider وللأبحاث والمشاريع التي قام بتمويلها.
قليلاً من الإمتنان:
كان JCR Licklider عالِم كمبيوتر يتمتع برؤية واضحة للمستقبل ودور أجهزة الكمبيوتر فيه، كان يعتقد أنه يمكن استخدام أجهزة الكمبيوتر لتعزيز الذكاء والإبداع البشري وأنها ستصبح أداة أساسية في جميع جوانب الحياة البشرية. لقد تصور مستقبلاً يمكن للناس فيه استخدام أجهزة الكمبيوتر للعمل والتعلم والتواصل بشكل أكثر كفاءة وفعالية من أي وقت مضى.
كان رائداً حقيقياً في مجال الحوسبة، وكانت أفكاره حول العلاقة بين البشر وأجهزة الكمبيوتر ذات تأثير قوي على الواقع الذي نعيشه اليوم، ورغم وفاته في 1990 قبل رؤية نتائج عمله، إلا أن مساعدته في المجال ودعوته للحوسبة التفاعلية والذكاء الاصطناعي والتركيز على تسهيل استخدام الكمبيوتر هو الإرث المتروك للأبد الذي سيبقيه خالداً بيننا، وستستمر أفكاره في إلهام الباحثين والمبتكرين في مجال علوم الكمبيوتر دافعةً عجلة التقدم.
أود أن أتوقف لحظة لأعبر عن تقديري العميق لـ JCR Licklider وجميع العلماء العظماء الذين ساهموا في تقدم المعرفة وتحسين عالمنا من خلال أفكارهم وجهودهم الدؤوبة. أنا ممتن لـ JCR Licklider وأمثاله من العلماء الذين تركوا إرثاً من العلم النافع والاختراعات المفيدة التي عززت قدراتنا – أولئك الذين حققوا اكتشافات رائدة وطوروا تقنيات غيرت كل جانب من جوانب حياتنا.قصة JCR Licklider هي قصة عن الشغف والطموح، واتمنى أن تكون تلك القصة هي حسن إلهامٍ لكم للاندفاع نحو العمل والاجتهاد لتحقيق أفكارهم مهما كانت مستحيلة”
المصدر: مواقع الكترونية